والمعنى الآخر للإحاطة أو ما تتضمنه الإحاطة هو إحاطة العلم، وهو أنه سبحانه وتعالى ((
وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا))[طه:98]، وعلمه محيط بكل شيء، فلا تخفى عليه خافية.. ((
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ))[غافر:19] : ((
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى))[طه:7].
وكلام المصنف رحمه الله هل هو تأويل؟ أم ينفي الإحاطة؟
قال رحمه الله: "ليس المراد من إحاطته لخلقه أنه كالفلك... وإنما المراد: إحاطة عظمة وسعة علم وقدرة.." فهو لم ينف الإحاطة.
ومعنى كلامه: ليست الإحاطة إحاطة فلك كما فهمها البعض، وإنما هي إحاطة عظمة وإحاطة علم، وهذا إيضاح، لكن لا يسميه تأويلاً كي لا يلتبس، وإنما هو بين معنى الإحاطة.
ولذلك فأقول: الإحاطة معناها ومضمونها واضح ونقول فيها ما نقول في الاستواء.
فنقول: الاستواء معلوم والإحاطة معلومة من كلام العرب لكن كيفيتها في حق الله تعالى غير معقولة.
وما سنوضحه هو عن معناها، أما الكيفية فكغيرها من الصفات ((
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11] فالمصنف رحمه الله لم يؤول أبداً وإنما وضح المعنى وبينه، ولم يقل: إن الإحاطة هي التدوير أو التطويق، لأن الإحاطة أجلى وأوضح، كما قال الإمام
مالك: [[
الاستواء معلوم، والكيف غير معقول..]].
مع أن من السلف من فسر الاستواء بمعنى ارتفع وعلا، أما الإمام
مالك فاكتفى بقوله: (الاستواء معلوم) وهذا فيه إحالة منه رحمه الله للمعنى اللغوي المعروف عند العرب الذي أنزل الكتاب بلغتهم.
وتفسير بعض
السلف للاستواء بالعلو والارتفاع جاء من باب الرد على المبتدعة الذين أنكروا الاستواء.
وهكذا قول المصنف هنا ليس تأويلاً للإحاطة وإنما بيان لمعناها ورد على المبتدعة الذين أنكروا هذه الصفة أو جعلوها إحاطة كإحاطة الفلك. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
قال: "إحاطة عظمة وسعة وعلم وقدرة، وأنها بالنسبة إلى عظمته كالخردلة، كما روي عن
ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [[
ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلاَّ كخردلة في يد أحدكم]] ومن المعلوم -ولله المثل الأعلى- أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاطت قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عالٍ عليها، فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف" وهذا الكلام -تقريباً- منقول بحروفه من
الرسالة العرشية، "فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد له إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن" أي: أن الله تعالى قادر على أن يقبضها في أي وقت؛ لأنه على كل شيء قدير.
والمقصود بالمباينة عندما نقول: الشيء مباين للشيء، أي: غير داخل فيه، بل منفصل عنه.
يقول: "فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته، أو يدني إليه من شاء من خلقه، فمن نفى ذلك لم يقدّره حق قدره".